

تحتلّ المسلسلات التلفزيونية مكانة رئيسة في العالم العربي، خصوصاً خلال شهر رمضان. إذ تجتمع العائلة بعد الغروب على مائدة الإفطار وحول الشاشة الصغيرة. ومنذ تسعينات القرن العشرين، تحتل المسلسلات السوريّة الحيز الأكبر من هذه الشاشة بعدما حلَّت محلّ المسلسلات المصرية التي ذهب بريقها. أمّا اليوم، فإنّ إنتاجاً تركيّاً ينافس السوري والمصري على حد سواء.
فقد حققت المسلسلات التركية نجاحاً ملحوظاً، خلال السنوات العشر الأخيرة، وازدادت نسبة مشاهدات المسلسلات التركية بشكل لافت، إذ أصبح يتابعها أكثر من نصف مليار شخص في أكثر من 156 بلدا حول العالم، وفق تقارير ودراسات رسمية، الأمر الذي جعل تركيا لا تكتفي بهذا القدر، بل عملت على التخطيط من أجل رفع أرباحها من الدراما إلى مليار دولار بحلول عام 2023.
ويصل معدل الإنتاج السنوي من المسلسلات في تركيا إلى أكثر من 70 مسلسلاً، فيما يتم تصدير ما بين 10 إلى 15 مسلسلا من بقية المسلسلات التي تحقق نجاحاً كبيراً إلى خارج تركيا. وتتم دبلجتها إلى عدد من اللغات، ومن بينها العربية، بحسب، مدير شركة “كالينوس هولدينج” المصدرة للمسلسلات، بشير تاتلي.
وهذا ما يجعل الدرامة التركية تحتل المرتبة الثانية بعد الأميركية، حسب تقارير تركية رسمية. وفي هذا الخصوص نقلت وكالة “الأناضول” عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قوله إن “تركيا تحولت إلى ماركة عالمية في مجال المسلسلات، التي تحظى حاليا بمشاهدة 500 مليون شخص في 156 دولة”.

وأرجع أردوغان الفضل في هذا النجاح إلى دعم حزب العدالة والتنمية للقطاع الفني والثقافي في البلاد، والذي زاد 50 ضعفاً مقارنة بالوضع عام 2002.
يجر هذا النجاح الذي تحققه تركيا في قطاع الصناعة الدرامية مجموعة من النجاحات في قطاعات أخرى، فبفضله يتزايد عدد السياح وبالتالي الاقتصاد المحرك الأساسي لتقدم الدولة ونجاحها. فقد أصبحت تركيا تستقبل السياح خلال المواسم الـ4 من العام. ومن المتوقع أن يصل عدد السياح الأجانب الذين تستقبلهم تركيا خلال العام الجاري إلى 50 مليون سائح.
فالمسلسلات التركية تروج لأماكن سياحية تركز فيها على ما يجذب الزوار من طبيعة خلابة ومناظر جميلة. ومع نجاح الأعمال الدرامية ووصولها إلى العالمية، أصبحت الإنتاجات تركز على مناطق أخرى غير إسطنبول، إذ يظهر مسلسل “احكي أيها البحر الأسود” مثلا، تقاليد وعادات ومناظر منطقة البحر الأسود التي تتواجد بها مدينة طرابزون. وقد بلغ حجم استثمارات السعوديين في المدينة في 2016 قرابة 5 مليارات دولارات.

من جهة ثانية، يثير انتشار المسلسلات التركية على الشاشات العربية الكثير من التساؤلات حول مستواها الفني والفكري والدرامي وحول ما قدمته للجمهور العريض الذي يشاهدها. فهي وإذ وفرت تسلية للمشاهدين في العالم العربي وخارجه فإنها من جانب آخر فضحت قضايا اجتماعية يعيشها المجتمع التركي، ولعل آخر ما تم عرضه مسلسل “الحفرة” الذي يتناول واقع مدينة إسطنبول تحديدا بشكل صادم حيث تنتشر مافيات الجريمة المنظمة ويسود الخطف والاغتصاب وتجارة المخدرات والاتجار بالبشر والدعارة.
وتواجه الأفلام التركية المدبلجة انتقادات كثيرة، سواء من طرف المنتجين العرب، على اعتبار أنها كانت سبباً في “كساد” تجارتهم، أو من طرف نشطاء يعتبرون أنها “دخيلة على الثقافة العربية وتروج لتصرفات منافية لقيم المجتمع العربي”، بحسب قولهم.
وعلى سبيل المثال تحصد الحلقة الواحدة من المسلسل التركي المدبلج أكثر من خمسة ملايين مشاهدة، أي ما يعادل أربع مرات عدد المشاهدات التي تحصدها الدراما المغربية.
الاهتمام بالمسلسلات التلفزيونية التركية قطع اليوم شوطاً كبيراً مقارنة مع حجم المنافسة الدولية الكبير في هذا المجال، وقد توسعت جغرافيا الجمهور المهتم بها بما تجاوز التوقعات، بل إن شهرتها طارت عبر الحدود من أميركا اللاتينية إلى أقاصي آسيا.
باتت المسلسلات التركية تشكل نموذجاً ناجحاً على المستوى العالمي، وهناك طفرة كبيرة تشهدها تركيا في هذه الصناعة، حتى أصبحت “تحتل المرتبة الثانية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، في تصدير المسلسلات،” بحسب تيمور سافجي منتج مسلسل “حريم السلطان”.
واليوم، تعرض أكثر من 100 دولة، بما في ذلك دول في أوروبا وأميركا الشمالية حوالي 150 مسلسلاً تلفزيونياً تركياً. وقد بلغت قيمة ما تجنيه تركيا من بيع مسلسلاتها التلفزيونية أكثر من 350 مليون دولار سنويا، في حين كانت قيمتها نحو 100 ألف دولار فقط، قبل 8 سنوات، بحسب ما صرح به عزت بينتو المدير التنفيذي لشركة الوكالة العالمية التركية Global Agency، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الرقم لا يشمل عائدات السياحة المتعلقة بأماكن ارتبطت بهذه المسلسلات والتي يصعب تقدير قيمتها.

إن تأثير المسلسلات على الاقتصاد أمر غير قابل للجدل. هذا المردود الضخم يأتي من ما تقدمه هذه المسلسلات، إن من ناحية المواضيع التي تتناولها أو الجرعة الزائدة من الرومانسية أو اختيار البطلات والأبطال الذين يمثلون قيم الجمال والإثارة.. حتى أن بعضها متهم بزرع الفتنة ما بين الأزواج ويطرح مسألة حقوق المرأة.
وربما يكون مسلسل “الحب الأعمى” الذي يعرض حاليا وتجاوز عدد حلقاته المائتين، ومسلسل “نور”، الذي عرض على الشاشات العربية عام 2008، أبرز مثالين. والأخير كان بمثابة “فاتحة شهية” الجمهور العربي للإدمان على متابعة المسلسلات التركية. ففي المملكة العربية السعودية وحدها، والتي تضمّ 28 مليون نسمة، جذب المسلسل يومياً بين 3 و4 ملايين مشاهد من الصغار والكبار، الرجال والنساء على حد سواء. فمسلسل “نور” طرح مساءل حول المرأة والحياة الزوجية من زاوية جديدة جذبت الجمهور العربي، وعالج موضوعاً قريباً وبعيداً في الوقت نفسه عن العالم العربي.

وكان يُمكن لهذا المسلسل التركيّ أن يمرّ مرور العابرين كآلاف المسلسلات الأخرى التي تفرزها القنوات الفضائية العربية. لكن ما في الأمر هو أنّ “نور” قد تخطّى الشاشة الصغيرة ليتحوّل إلى ظاهرةٍ اجتماعية. حتى أنّ البعض تجرّأ على الكلام عن حركةٍ إجتماعية.
يمكن تفسير سر جاذبية المسلسلات التركية بالنسبة للجمهور العربي من خلال ثلاثة عوامل: “العطف، والرومانسيّة، والأبطال أنفسهم (الإناث والذكور) والدبلجة باللهجة السورية.
ففي مسلسل “نور” كان المظهر الجميل للبطل مهند والبطلة نور قادراً وحده على إغواء الجنس اللطيف، وكذلك العلاقة التي تربطه بزوجته نور والقائمة على الحبّ والإحساس والمساواة والاحترام المتبادل والقدرة على القيام بتنازلات، هي التي سحرت حقيقة الجمهور. أمّا شخصيّة نور الجميلة الرائعة، فهي تمثّل المرأة العصريّة، المستقلّة والشجاعة.
هذان الزوجان (نور ومهند) هما رمزٌ للحب الرومنسي الذي تفتقر له ثقافتنا. لا شكّ أنّه مبالَغٌ فيه قليلاً؛ لكنّه من الجيّد أن يرى الرجال هذا النوع من الحبّ، حتى ولو على التلفزيون”.
غير أنّ الطابع الرومنسيّ للمسلسلات التركية ليس ميّزتها الوحيدة. فهنالك عناصر أخرى تفسّر نجاحها في البلدان العربية، كالتقارب الثقافي بين الشخصيّات والجمهور العربي.
ففي حين أنّ المسلسلات المكسيكية والأرجنتينية مُدبلَجة إلى العربيّة الفصحى، تُرجم المسلسل التركي إلى العربية المحكيّة السورية. وإضافة إلى كون هذا الخيار يسهّل فهمه من قبل أكبر عددٍ من المشاهدين، فإنّ له دلالات أخرى. فخلال التسعينات، سمح تطوّر الصناعة السورية للمسلسلات التلفزيونية بظهور إنتاجات من نوعٍ جديد، في سوقٍ لطالما سيطر المصريّون عليه؛ فأسلوبها المصقول أكثر، وحبكاتها الحاذقة أكثر، حظيت بإعجاب الجمهور على حساب “المسلسل المصريّ السرمديّ القائم على خلفيّة الغرام والانتقام. وفي الواقع، فإن الجمهور الذي انشدّ إلى المسلسلات السورية قد بدء شيئاً فشيئاً بالتآلف مع اللغة السورية المحكيّة، لدرجةٍ خلق علاقةً حميمة بين هذه الأخيرة والمشاهدين في جميع أنحاء العالم العربي. هكذا استمتع الجمهور العربي باستعادة عذوبة اللّكنة “الشاميّة، الأمر الذي سهّل انخراطه في المسلسلات التركية.
“هناك مسلمون يعيشون بشكل مختلف”
إن المشكلة الحقيقية ليست في الرواج الذي لاقته هذه المسلسلات ولا في الإقبال الجماهيري العربي الكبير على مشاهدتها، إنما تكمن مشكلة الدراما (الدخيلة) في أمور عديدة. في مقدمتها أنها تمثل مجتمعا إسلاميا ليس من الإسلام في شيء في كثير من أفكاره وطروحاته وطريقة عرضه وإحداثه.
على الصعيد الثقافي، من البديهيّ أن يكون مسلسلٌ تركيّ أقرب إلى الشعوب العربية من المسلسلات الأميركية اللاتينية. إذ تجري أحداث المسلسلات التركية في بلدٍ مسلمٍ ويروي قصّة عائلةٍ مسلمة: فهو يصوّر نمط حياة، وذهنيّة، ومجموعة من القيم والعادات المنتشرة من اسطنبول إلى صنعاء. هكذا فإنّ أهمّية العائلة، في مجتمعات تعيش فيها أجيال عدّة تحت سقفٍ واحد، واحترام الأجداد، والزيجات المدبَّرة من قبل الأهل… كلّها عناصر جعلت المسلسلات التركية مألوفة من قبل الجمهور العربي.
لكن إن كانت هذه الثقافة المشتركة هي التي سهّلت عمليّة تماهي المشاهدين مع الشخصيّات، فالاختلافات بين الدول العربية والمجتمع التركي -الأكثر علمانيّةً- هي التي أثارت في المقابل سخط المحافظين. إذ حتى ولو كان الأبطال يلتزمونم مثلاً بصوم رمضان، تتضمّن المسلسلات التركية مشاهد قد تصدم المدافعين المتزمّتين عن “الأخلاق الإسلامية”: فما من حرج لدى شخصيّات المسلسلات التركية في احتساء الكحول أو في إقامة علاقات جنسيّة قبل الزواج.
التجاور الثقافي بين العرب والأتراك يسمح بنوعٍ من التماهي؛ وعندما يترافق هذا الأخير مع الإعجاب بالبطل، يبدأ المشاهد بالتساؤل حول أوجه الاختلاف التي يلاحظها بينه وبين هذه الشخصيّات. فعندما يرى الشباب، المفتونون بالمسلسلات التركية، مسلمين منخرطين في علاقات عاطفيّة قبل الزواج، أو لديهم أولاد خارج إطار الزواج، فالأمر أخطر من رؤيتهم الغربيّين يقومون بالشيء ذاته. ويلخّص إصلاح جاد، الأستاذ في جامعة بيرزيت، في الضفة الغربية، المشكلة الحقيقيّة التي تواجه المحافظين، كالتالي: ” هذا النوع من المسلسلات يكشف عن وجود مسلمين يعيشون بطريقةٍ مختلفة”.
من جهة ثانية، تحولت المسلسلات ا لتركية أيضاً إلى وسيلة رائعة للترويج للسياحة في تركيا. فقد نقلت صحافيّة في جريدة “واشنطن بوست” من مكتب الرياض، أنّه، بحسب أحد الديبلوماسيّين الأتراك، ارتفع عدد السيّاح السعوديّين في عام واحد فقط من 40 ألفاً في العام الماضي إلى 100 ألف سائح، أرادوا الذهاب إلى اسطنبول لزيارة الأماكن التي تمّ فيها تصوير حلقات المسلسلات التي يشاهدونها، وربما محاولة لرؤية البطلات والأبطال. وقد عرف القطاع السياحي التركي كيف يستغلّ هذا الافتتان. فعلى سبيل المثال تمّ استئجار المنزل الذي صور فيه مسلسل “نور”، على ضفاف البوسفور، من قبل المكاتب السياحية وتمّ تحويله إلى متحف.
فائدة جيوسياسية
ومع ذلك، فالفائدة الحقيقية للمسلسلات التلفزيونية ليست اقتصادية فقط إنما جيوسياسية أيضاً. إذ تساهم المسلسلات التركية في الخارج في بناء خيال جيوسياسي جديد على الصعيد المحلي والدولي على حد سواء. ويتشكل هذا الخيال بقدر المتعة والترفيه الذي ينشره المسلسل في بيئة عرضه. وبهذا المعنى يكون للمسلسلات التركية ليس فقط مردود مالي ولكن أيضا قدرتها على بناء رواية حقيقية عن تاريخ الأمة.
وكمثال على ذلك، فقد نجح قطاع المسلسلات والأفلام في الولايات المتحدة إلى حد بعيد في تغيير مفهوم معظم الناس عن تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام. تلك الحرب حيث أخفيت حقيقة هزيمة الأمريكان الكارثية جزئيًا.
في الوقت نفسه، استخدمت الصناعة الترفيهية مجموعة من العناصر بما في ذلك الأفلام السينمائية، لتشكيل صورة عالمية سلبية عن تركيا. مثلما حدث في التصوير غير الواقعي لصورة تركيا في فيلم “ميدنايت اكسبريس” عام 1978. لذلك، من المهم ألا يتم تقييم صادرات تركيا الدولية لقطاع الأفلام والمسلسلات فقط بقدر مساهمتها الاقتصادية في البلاد، ولكن أيضا لمساهمتها في الخيال الجيوسياسي للعالم.

أول ما عبرت السينما التركية الحدود الجغرافية والثقافية كان في منتصف العقد الأول من القرن الحالي. وعلى وجه التحديد، في فيلم وادي الذئاب بنسخته العراقية (2006) ووادي الذئاب بنسخته الفلسطينية (2011)، وهو فيلم سينمائي وقائعه مأخوذة عن مسلسل تلفزيوني يحمل نفس الاسم، اللذين أحدثا ارتفاعاً في حدة الاضطرابات الدولية بهزهما خيال الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط وتركيا.

وقد كانت السيطرة، قبل هذا النوع من السينما، للخطاب الجيوسياسي الغربي على الشرق الأوسط وتركيا داخل قاعات السينما.
لقد تحدّت سلسلة الأفلام هذه الخطابات الجيوسياسية التي سادت فترة ما بعد أحداث 11 سبتمبر التي أنتجتها هوليوود، واستطاعت أن تعارض أفلام ومسلسلات الحرب على الإرهاب التي أشارت إلى أن المسلمين والمشرقيين هم إرهابيون محتملون وجغرافيتهم مليئة بالعنف والفوضى.
دخل وادي الذئاب بنسخته العراقية المسرح العالمي بهدف الإطاحة بالتصور الغربي للمسلمين. وعرض المسلسل العلاقة بين حرب العراق والمصالح الأمريكية في الاستحواذ على النفط العراقي، وحماية الإسرائيليين في الشرق الأوسط بأي ثمن. وبمشاركة ممثلين هوليووديين في العمل، أعاد وادي الذئاب العراقي رسم حقيقة وجود الولايات المتحدة في العراق.
وقد استقطب العمل بعد فترة وجيزة من عرضه على الشاشة البيضاء، النقد والثناء كلاهما بفهمه للحرب الأمريكية على الإرهاب والسياسات المتعلقة بالشرق الأوسط. لا شك في أن هذا العمل التلفزيوني يشكل نقطة دخول تركيا إلى المسرح الجيوسياسي العالمي كممثل إقليمي يمكن أن يتحدى الفهم السياسي المسيطر على الشرق الأوسط. وهكذا انطلقت أول رحلات قطاع الترفيه التركي عبر الحدود، ودخلت تركيا عصر تفكيك الخيال الجيوسياسي المسيطر الذي كان في السابق يرسم التصورا عن المنطقة.
في المرحلة الثانية، من عام 2014 حتى الوقت الحاضر، راح قطاع الأفلام والمسلسلات التركية يبني خيالًا جيوسياسيًا من خلال عبور حدود الدولة بسلاسة للوصول إلى غرف معيشة الملايين من المتابعين بشغف، من الشرق الأوسط إلى أمريكا اللاتينية. في هذه الفترة، صارت المسلسلات التلفزيونية التركية قادرة على أكثر من مجرد تدمير التصورات الثابتة. أصبح العاملون فيها يستخدمون قصصا وخطبا متنوعة لا تقتصر على تسلية الملايين فحسب، بل تساعد المشاهدين على تمييز القراءات البديلة للسياسة العالمية أيضًا ومشاركة الرواية التركية للتاريخ والجغرافيا. فالمسلسلات التلفزيونية الذي يتم إنتاجها بدعم من هيئة الإذاعة والتلفزيون التركية “تي آر تي” تقوم على أرضية الترفيه مع دراما تاريخية كاملة قادرة على تشكيل خيالٍ جيوسياسي.
مسلسلات مثل “قيامة أرطغرل” و”السلطان عبد الحميد” و”حريم السلطان” و” كوت العمارة”، هي من المنتجات التاريخية التي لا تعيد فقط أمجاد الماضي ولكنها تضفي أيضا الطابع الرسمي على خيال جيوسياسي جديد وتوصل الروايات الوطنية الحقيقية للجمهور.

تعرض هذه المسلسلات التلفزيونية أمام جمهورٍ محليٍ ودوليٍ واسع، قصصًا بنّاءة تتوافق مع رؤية تركيا الجديدة في العقد الأخير. وعليه، فإن قدرتها البنّاءة في الجغرافيا السياسية من خلال الترفيه والتسلية تختلف عن الفترة السابقة للإنتاج.
تعيد هذه المسلسلات بناء الأحداث التاريخية والتعريف بالشعوب والمناطق الجغرافية بطريقة لا تشبه القراءات التقليدية للتاريخ والجغرافية التركية. على سبيل المثال، يسلط مسلسل “السلطان عبد الحميد” الضوء على حقبةٍ مثيرةٍ للجدل في التاريخ العثماني إذ يروي أحداثاً كثيرة من حياة عبد الحميد الثاني، الملقب بـ”السلطان الأحمر” في الغرب. ويسرد المسلسل صراعات السلطان للحفاظ على استمرار الإمبراطورية وبقائها على قيد الحياة لعقود على الرغم من كل أنواع التدخل الإمبريالي الغربي.
إدمان الشاشة
ما هو سرّ هوس الناس بالمسلسلات التلفزيونية؟ وما هي علاقة الدماغ بالإفراط في متابعة المسلسلات؟
تشرح الأخصائية في علم النفس السريري ريني كار أن الشعور بالرضا بعد مشاهدة المسلسلات يعود بشكل رئيسي إلى المواد الكيميائية التي يطلقها الدماغ. وتقول: “عندما ننخرط في نشاطٍ ممتع، مثل مشاهدة التلفاز “بشراهة”، يفرز دماغنا الدوبامين، وهي المادة الكيميائية التي تعطي جسمنا متعة داخلية مما يعزز المشاركة المستمرة في هذا النشاط، خاصة أن الشعور بالراحة يجعل دماغنا يقول لنا: استمروا في هذا العمل…”.
وتشبه كار العملية التي نتعرض لها أثناء الإفراط في مشاهدة البرامج التلفزيونية بما يحصل فعلياً عند تعاطي المخدرات، وتقول:”المسارات العصبية التي تسبب إدمان تعاطي الهيروين أو الإدمان الجنسي، هي نفسها التي تؤدي إلى الإدمان على المشاهدة”، مشيرةً إلى أن الجسم لا يقاوم اللذة وبالتالي يكون الإدمان على أي نشاطٍ أو مادةٍ تعزز من إطلاق الدومابين.
التعلق بالشخصيات
بالرغم من أننا نعي جميعاً أن ما نشاهده هو محض خيال ولا يمت إلى الواقع بصلة، فإن التعلق بالشخصيات التلفزيونية مسألة لا مفرّ منها، لدرجة تجعلنا نخلط بين الواقع والخيال، ونصبح عاجزين عن فصل نفسنا عمّا هو زائف.
تشير الأخصائية في علم النفس دانييل فورشي إلى أنه ليس الخيال الكامن وراء البرنامج التلفزيوني هو الذي يوجهنا، بل المشاعر الحقيقية التي ينقلها لنا فريق التمثيل.
وتؤكد فورشي أنه من الطبيعي جداً أن يتعلق المرء بشخصية “خيالية” على شاشة التلفاز نتيجة ملامسة دماغه للعواطف البشرية. وتقول: “عندما نرتبط عاطفياً بشخصية ما، وبالرغم من احتمال ألا تكون هذه الشخصية نفسها في العالم الحقيقي، يحسّ دماغنا بالعواطف البشرية التي تصورها هذه الشخصية فيخلق الشعور بالارتباط بها…”.
إطلاق العنان للمشاعر
بدورها، تشرح جنيفير بارنز، أستاذة علم النفس في جامعة أوكلاهوما، أن مسألة الإدمان على المسلسلات تعود بشكل أساسي إلى عدم قدرة الدماغ على التفريق بين العلاقات الحقيقية والعلاقات الخيالية، فتختلط العواطف التي يمكن أن يجنيها المرء جرّاء مشاهدة برنامج تلفزيوني بانتظام كتعزيز احترام الذات، والشعور بالوحدة، والشعور بالانتماء.
وتلفت بارنز إلى أنه من المنطقي أن نشعر بالحزن حيال وفاة شخصية معيّنة، أو أن نتعاطف معها عندما تأخذ قصتها منحىً سلبياً، لأننا نكون قد أنفقنا الكثير من الوقت والجهد لمتابعة مجريات الأحداث، وتصبح الأمور معقدة أكثر خاصة حين نشعر بأننا نمر في ظروف مماثلة لما تعيشه الشخصية في المسلسل. وترى أن الشخصيات التلفزيونية سرعان ما تتحول إلى أصدقاء لنا، وبالتالي من الطبيعي التعلق بها، وذرف الدموع على معاناتها
**************
المصادر:
كيف ساهمت المسلسلات والأفلام التركية في تغيير المخيلة الجيوسياسية في الشرق الأوسط
280 مليون دولار سنويا قيمة بيع المسلسلات التلفزيونية التركية
